الأحد، 4 ديسمبر 2011

spare 60 ـ طفولــة شاحبــة ـ


**************
*...طفولـة شاحبـة ..*
**************
 لماذا سلّمتني إلى مفاتيح الحياة المظلمة ، وأغلقت أبوابك دوني ؟
سؤال مطبوع في ذاكرة الزمن . هل ضيّعت جوابه واستطعت أن
تنساني ؟
أبي ..!  
هل من حقي أن أناديك بهذه اللفظة ؟  أنت دفنتها قبل
أن تولد على شفتيّ . ربّما لا ينطق بها
طفل مات والده ، وعاش يتيماً ،  أما أنت
 حرمتني اللفظة ومضمونها ومعناها ومازلت حيّاً ترزق وتعيش .  
ربّما تتعرّف عليّ في زمن ما ..
أو تنكرني ، أو تعود إليّ أنا في دائرة الأسئلة ، ولا جواب لديّ .
شفاهي يعضّها الوجع ، والحرمان يفتت هذه الكلمة التي لم أستقِ منها أنا المتعطش إليها في صحراء الحياة ، حين تركتَني كحبّة رمل جافة ثكلى قرب واحة الحنان .
أبتعد قليلاً عن الحاضر ، الماضي ما زال يقبع في ذاتي وذاتي الحاضرة فيّ علمتني أن أحصد خطوات المستقبل بالتحدّي والعزيمة ، لأن المستقبل هو الأهم .. والإنسان موقف ، إن تخلّى عن الموقف الذي يجابهه يكون قد تخلى عن كل شئ .. ـ
سامحني إن قلتُ لك .. أنتَ تخليتَ عن أبوّتك ولم تجابه الموقف بالمنطق والعدل . ـ
بماذا تفسر ضعفك هذا يا أبي ؟.. ـ
قد يخطر ببالك أني أحاسبك .. لا .. وهل يحق للابن في مجتمعنا أن يحاسب أبيه ؟ عليه الخضوع المطلق والاستسلام ، إنما أطلب تفسيراً لما حدث .. ـ
والأجوبة عندك وحدك ، ربما تتهرب من الأجوبة الصعبة وتعطيني ورقة بيضاء ، ولكن لا بد أن أكتب ليس من أجلك وأجلي بل عبرة للزمن ، والأهل ، والمجتمع .. التجربة القاسية التي عشتها بكل تفاصيلها وصعوباتها ستصبح الآن على الورق تجربة صغيرة مشحونة بكل الانفعالات والمعاناة والضياع .. ـ
أقترب من نافذة طفولتي ، أرفع الستارة المعتمة ضباباً مكثفاً ، وغيوم سوداء تمطر بغضب وقهر تشلّ براءة طفولتي ، وتنتزع

الفرح من كروم ، انحنت براعمها وجفّت .. ـ
أغلق النافذة لا أريد أن أتابع .صور وصور مرعبة ، وذاكرتي المشحونة تعكس مرايا مكسرة بأصابع العواصف ، والرياح

 والتشتت ... ـ
هل هناك طفل يخاف من طفولته ؟ .. ـ

كل طفل يخاف من الشيء الذي لا يعرفه ، وطفولتي التي تكسّرت أغصانها ، ودعمت ببراعمها الغضة ومراهقتي
التي لم أعشها ، ولم أعرفها ، مازالت ظلال تنوس بين العتمة والنور ، بين الحاضر والماضي ، وأشباح القهر تومئ إليّ
بالقلق كأنني أغامر في محطات لا أعرفها ، كأي غريب موزع بين وطنه وغربته ، وأشدُّ غربة ، غربة الإنسان في وطنه
،غربة طفل وحيد مشرّد في طرقات التعب ، يشرب من بئر الحرمان ويقاوم .. ويقاوم كأي جندي فقد سلاحه ، ربّما
كلّ الطرق تقود إلى اللامكان.. فإنه لا يهمّ أي الطرق نختار لنلقيّ فيها نشاطنا وإرادتنا
رحمتك إلهي .. قد خلقتني لأقاسي دون أن أفهم لماذا ؟ يستمرّ النهر في جريانه ، وأستمرّ في تأمّلاتي .. ليس هناك

فشل نهائي ، أو نجاح نهائي . أليست الحياة كالنهر ، حقيقتها الوحيدة في عدم انقطاعها عن الاستمرارية .. وهكذا
اتّبعت حقيقة واحدة : إني رغم كلّ شيء سأستمر . ـ
يقولون : الزواج فقدان كلّ شيء . لماذا وضعت نفسك في موقف فقدت فيه ولدك الوحيد ؟
لماذا لم تبحث عن شيء منك ، من تكوينك ، من دمك ونبضك ؟ كان ممكناً جداً ألا تفقدني لو لم تنظر بغير

اكتراث إلى شقائي ؟ صحيح ليس هناك شيء لا يمكن فقدانه .. لكن الابن .. ألست أنت خالقه ومبدعه ؟ وتركتني
في حياة كلّها تعب متواصلٌ ، وتنقّلٌ وتشتّتٌ وفقرٌ وعملٌ ...وكم كان أفق حياتي مليئاً بالشقاء .. وأنا أغرق في فيض
الحزن والفقدان . ـ
ولكنّ الإنسان ليس شكلاً ثابتاً غير متغيّر ، إنه تجربة وانتقال. مددت ذراعي لأتجاوز كلَّ الصعاب وكنت أخوض

محيطاً بلا حدود ، تسوّره السدود من كلِّ نوع . واستطعت أن أحطّم السدود وأصل إلى عالم ليس محدود إلا بالعلم
والمعرفة والعمل ... هذه المشاعر أبحثها الآن مع نفسي أكثر مما يجب ، وأوضّحها ربما
لك .. ربما للقارئ .. ربما لذاتي أكثر مما يجب . سأثبت لك يا أبي .. وللحياة التي رميتني بها صغيراً أنني سأحيى كما الأقحوان الغافي تحت سياج مضفورة بالأشواك ..ـ
المطر مقفقف على نافذتي ، ربّما السماء عابسة ، والريح تنغّم صفيرها حولي .. وأن أفتح دروب قلبي على الورق مطمئناً إليه .. وشريط الروح يرسم زرقة شفافة على بوابات

الغيوم التي تبدّل ألوانها .. كما تتبدّل انفعالاتي مع رذاذ الحروف المترنّح ويرسم طيوف حبّك الشاقة والمتعرّجة .. ـ
فالأرض تدور ، والتاريخ يتغيّر ، والعواطف تتبدّل .. إنما نحيى ونبقى بالفعل الخالد . تضغط حروف اسمك ، أتجاذب في إلحاح بطيء إليك . صوتي يذبل ، وينغمس في خرخرة

السؤال : ـ
أمي .. أين أبي .. لِمَ لا يعيش معنا ؟.. ـ
عيناها تحرق الدمع المتحجّر : ـ
إنه في المدينة أنسيته ؟.. ـ
صورته معي دائماً .. ـ
تصمت أمي ، وكعادتها تتشاغل عن الشرح والتفاصيل ، تضمّني إلى صدرها ، وتداعب خصلات شعري المبعثرة كذاتي .. وتشغلني جدتي عن التفكير به . ـ
غيث .. يا حياتي ..
وتمحو بنظراتها الحانية كل الأسئلة لأنها تعرف أن الأجوبة مستعصية ، أقعد في حضنها مستسلماً للمسات الحنونة ، والقبل الطرية وقلبي مغلّف بكآبة خفية .. ويحوط عقلي

ضباب كثيف ، أليس كلّ الأولاد لهم آباء ؟ وأنا لي أب أيضاً ولكنه كما تقول أمي مشغول عني .. يذوب ضجيج الروح وأصلي كي أنسى، أو كي يعود أبي .. ـ
ويبقى في أعماقي توق خفي يخبو ولا يموت ، توق كي تعيش معنا .. هذا التوق يدفعني ويحرّكني بقوّة ، فأنت نقطة البدء لوجودي ، والخاتمة كحركة غموض الزمن .. صوت

صديقي مجد يوقظني من شرودي ونحن نتسامر في باحة المدرسة .. ـ
غيث .. لماذا لا يعيش والدك معكم ؟
أنتفض للسؤال المقهور . تقول أمي لديه أسرة أخرى وعمله في المدينة .. ـ
سافر إليه


لا.. لا أستطيع يا مجد أن أترك جدتي . ـ
غريب أمرك يا غيث .. ـ
مجد ، لنقفل هذا الموضوع ، لا جدوى من التحدّث فيه. ـ
صمت مجد وكأنه أحسّ بالمعنى الانفعالي والروحي الذي سببه لي .. وكيف أعبّر له عن نفسي المتشعّبة في الضياع وكأنني أعيش خارج المألوف من حياة الأسرة المنقسمة أخرج من المدرسة ورأسي الصغير محشوٌّ بالأفكار والدروس وأتناول بعض الطعام وأسرع إلى العمل .. المسؤولية أكبر من قامتي ، صوتي يرتطم بالفراغ . عمل .. ودراسة .. وتعب .. أيتحمّل كل هذا جسدي الصغير .. أمشي مساءً عائداً من عملي ، والأفكار تسبقني ، وأرمي أوراق طفولتي البريئة على أرصفة القلق .. والشقاء . ـ
أمسح جبيني من عرق الإرهاق ، وأنا أرتدي ثوب الماضي المغسول بالحرمان ، أتيه في ممرّات مراهقة شقية حفرت بأصابع العمل والدراسة والكفاح وأبدو مطموراً بأصبغة الراشدين، وقد تلوّن شبابي بالشحوب والكآبة .. ـ
يحدّثني مجد عن ابنة جيرانه ، وكيف يكتب لها أشعاراً ويدسّها في دفترها كلّ مساء .. ـ
أتسمع يا غيث ماذا كتبت لهيام : ـ

قلبي حسون
يخبئ نغمة على شرفاتك
تتفتّح ورود الحب .. ـ
وأنت الحلم
بكل ألوان الربيع
تزهر ابتسامتك
.. ـ


تترامى أغصان حزني وأنا أستمع إلى نبرته المحبّة روحي تحترق أتمنى أن أجد من أحبّها .. ولكن يبقى الحبّ في عيني نظرة تساؤل محيّرة ، وأنا المحكوم بالحرمان ومن هي التي تحبّ فتى لا وقت لديه إلا للنوم ساعات قليلة .. ويبقى الحب صورة وهمية ، أو صفحة أسمعها من أشعار مجد كلّما التقينا في أيام العطل .. ـ
لا وقت لديّ للحب .
فأنا صممت أن أكون الرجل الأقوى مع أمي وجدتي
؟

ليست هناك تعليقات: